وارف قميحة
#تلك_القصص
6700 كلم طول الطرق البرية الوعرة في ظل ظروف مناخية قاسية صيفا” وشتاء” التي عبرتها القوافل التجارية الصينية قبل ما يزيد عن الفي ومئتي عام كي تصل الى ميناء مدينة صور في جنوب لبنان لتفريغ حمولتها على متن السفن المتجه الى أوروبا ، مسافة قد تبدو للوهلة الاولى طويلة وشاقة ولكن لا تقاس بمسافة شغف تقدر ب 45 كلم من نقطة الانطلاق الى وجهتنا حيث جحافل محاربو وفرسان تيراكوتا – ” جيش الطين العظيم ” المتأهب في شمال غرب مدينة شيآن مهد طريق الحرير ،
استقلينا الباص المخصص لرحلتنا ، من نافذته مرت في اذهاننا شتى صور الماضي البعيد الممزوج بالأثارة والشوق والانتظار لرؤية عظمة الارث التاريخي الذي تم ادراجه في العام 1987 ضمن لائحة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة ” اليونسكو ” ،
تيراكوتا (Terracotta Army) هو جيش متكامل بكافة تشكيلاته العسكرية المتبعة في الجيوش القديمة تم اكتشافه بمحض الصدفة في شهر آذار 1974 في اجواء مناخية جافة بينما كان فريق احدى التعاونيات الزراعية يقوم بحفر بئر لري المزروعات ، لم يدرك يانغ زيفا ذلك الفلاح الكادح الذي غرس معوله في اعماق أرض اجداده انه سوف يكشف النقاب عن حدث تاريخي عظيم ، بداية عن تمثال من الطين دون راس واستمر بالحفر مع صديقه حتى اكتشفا الكتفين والنصف الأعلى من التمثال ، كان اقصى طموح صديقة اقناعه بمقايضة ما عثروا عليه بالتبغ ، في ذلك الوقت كانت الثورة الثقافية ثورة البروليتاريا الثقافية الكبرى ، تجمهر ابناء القرية وشباب الحرس الأحمر حول تلك الاكتشافات ، وفي المقابل وقف بعض كبار السن معترضين من دون جدوى على عملية اتمام الحفر لانها من ” الرمال المحلية ” وهذا الامر مكروه وفقا للمعتقدات التي يؤمنون بها ، بعدها تم نقل التمثال والقطع الطينبة الاخرى بواسطة ثلاث عربات صغيرة ذات عجلتين لعدة كليومترات وتسليمها الى متحف لينتنغ (Lintong) الواقع في المنطقة ، وعند الانتهاء من تحقق ادارة المتحف على ان تلك القطع الاثرية تعود الى سلالة عائلة الامبراطور تشين تمت مكافتهم بمبلغ 30 يوان ما يعادل راتب ثلاث سنوات لعامل بسيط في تلك الفترة ، اما نصيب يانغ زيفا كان مقدار اتعاب نصف يوم عمل بعد حسم حصة فريق العمل والتعاونية الزراعية ، القناعة في تلك الظروف كنز لا يفنى ، وقد حصل لاحقا على تعويض 5000 يوان وشقة وقطعة ارض تعويضا عن منزله الذي اضطر لاخلائه والعديد من المزراعين بعد قرار السلطات بناء متحف في موقع الضريح الذي بفضله تحول المكان الى منطقة مزدهرة ادت الى تحسن ظروف ورفع مستوى القرويين الأقتصادية نتيجة لتحول المنطقة الى منطقة تجارية من مطاعم واسواق لكثرة الوافدين من السواح لزيارة المكان ، مرة اخرى كان الحظ حليف يانغ زيفا حيث تم تعينه من ادارة المتحف مرشدا ودليلا سياحيا للمكان المكتشف بفضله وبقي في منصبه حتى بلوغ سن التقاعد .
عوضاً عن العربة بعجلتين التي استخدمت عام 1974 لنقل المكتشفات استقلينا السيارة الكهربائية المخصصة لنقل السياح من موقف المتحف لتزيد خمسة دقائق اضافية من الحماس لنجد احفاد المزارعين واحفاد زيفا في انتظارنا امام مدخل مجمع المتحف ، كانوا دليلنا والمرشدين في جولتنا في ارجاء مباني المتحف المكون من اربعة حفر وقاعتين رئيسيتن ،
بالنظر الى الحفرة الاولى من الاعلى تصاب بالذهول حقا وتخفف عنك قليلاُ لحظات الانتظار الثقيلة ، أحد عشر ممرا تضم الجيش الرئيسي المكون من اكثر من 6000 محارب يبلغ طولها 230متر وعرضها 62 متر مساحة تحتاج الى وقت لتامل عظمة الانتاج الحرفي البارع في فجر أول إمبراطورية في الصين ، محاربون يحاكون في اشكالهم (170- 200 سم) جنودا حقيقين ملامحهم مختلفة عن الاخرين بأدق التفاصيل سواء من حيث الشكل او الوزن (150-300 كلغ) اللون ، الشارب ، اللحى ، حتى نمط الاذن ، الجيش الذي أمر الامبراطور بتجهيزه يقفون موزعين بشكل احترافي ويصطفون بالنظام المرصوص الى الجهة الشرقية بشكل يوحي بالقوة والقدرة على الدفاع عن ضريح الامبراطور( يقع مسافة 1.5 كلم من مواقع الحُفر) وحمايته في حياته الاخرى لإيمانه بإن اعداءه الكثر لن يتركوا أثره بعد الموت وسيسعون دائماً للانتقام منه ،
الحفرة الثانية تبدو كنقطة حراسة وتحتوي سلاح الفرسان والمشاة والعربات الحربية التي تجرها الخيول ، ما يفسر هذا التكهن هو قربها من الحفرة الثالثة وهي مركز قيادة اركان الجيش وعربة حربية ، اما الحفرة الرابعة وجدت فارغة لاسباب لا تزال مجهولة ، بالانتقال الى القاعة الاولى حيث الإضاءة التّوجيهيّة والمركّزة جدّاً لتسليط الضّوء على العربة البرونزية للإمبراطور تشين التي يمتطيها الحُوذي وتجرها اربعة جياد ، القاعة الثانية خصصت لعرض الاسلحة المتنوعة من دروع وسيوف وسهام ورماح مصنوعة من البرونز .
جيش ” تراكوتا ” الذي يعني باللغة الصينية تماثيل الفرسان والخيول الجنائزية يتكون من 8000 جندي واداري وموسيقي تقريبا و150 فارس إضافة الى 130 عربة حربية تجرها 520 من الخيول .
منذ افتتاح متحف الضريح في العام 1979 حوالي أكثر من 100 مليون زائر سنويا كان يقصدون “الاعجوبة الثامنة في العالم ” التي زارها ايضا اكثر 220 رئيس دولة وحكومة ربما لاخذ الدروس والعبر من الامبراطور “تشين شي هوانغ” (259-210 قبل الميلاد) الذي ساهم في انجاز الوحدة الصينية لأول مرة في تاريخها بعد مرور قرن من الانقسام بين الشمال والجنوب ، إمبراطور قام بإجراء العديد من الإصلاحات منها نظام تحقيق المساواة في امتلاك الأراضي بالإضافة إلى مركزية الحكومة والإصلاحات مبتكرا” نموذجًا حديثًا للحكم بعد قرون من الانقسام ، وتم وضع هيكلية رسمية لادارة شؤون الامبراطورية ، نظام الحقوق ، وتوحيد اللغة وتمت معايرة العملة وإعادة توحيدها إضافة الى توحيد المقاييس والمكاييل وتحسن الدفاع و مدّ سور الصين العظيم .
مخاوف الامبراطور كانت في مكانها ، بوفاته سرعان ماعادت جميع الممالك التي وحدها تشين إلى سابق عهدها وحدودها وقسمت أراضي إمبراطوريته الساقطة إلى ثمانية عشر مملكة لكن من المؤكد أن هذا الإمبراطور حقق من الوحدة والانضباط والاستمرار كثيراً ، ولم يفلح أحد بعد ذلك في تغيير هذا الاستمرار والوحدة التي سادت الصين لأي سبب.