اقتصادالتجارة الإلكترونية

الصين تُلهم لبنان.. هل يتحول الريف إلى سوق رقمي؟

في ظل ما يعيشه لبنان من أزمة اقتصادية ممتدة، تبدو التجارة الإلكترونية فرصة حقيقية تلوح في الأفق، يمكن أن تُحدث فرقًا جوهريًا ليس فقط في المدن؛ بل على وجه الخصوص في الأرياف والقرى المهمشة. ففي حين يواصل الاقتصاد التقليدي تعثره، تتجه أنظار الكثير من الشباب اللبناني نحو الفضاء الرقمي، حيث يمكن تحويل المهارات والإنتاج الحرفي والخدمات المحلية إلى مشاريع مستدامة عبر الإنترنت.

لكن هذه الفرصة لا تكتمل من دون بنية تحتية رقمية ولوجستية، ولا تنجح من دون سياسات داعمة وخطط استراتيجية واضحة المعالم. وهنا تبرز أهمية دراسة النماذج الناجحة في العالم، وعلى رأسها التجربة الصينية الرائدة التي قدّمت مثالاً واقعيًا على كيفية دمج الريف في الاقتصاد الرقمي، وتحقيق نسب نمو لافتة عبر التجارة الإلكترونية. 

أحدث البيانات 

فقد أظهرت بيانات حديثة صادرة عن الاتحاد الصيني للخدمات اللوجستية والمشتريات أن مؤشر الخدمات اللوجستية للتجارة الإلكترونية في الصين بلغ 111.6 نقطة خلال شهر أيار 2025، بزيادة 1.1 نقطة عن الشهر الأسبق، وهو ما يعكس استمرار نمو هذا القطاع. ويُشار إلى أن هذه المؤشرات تُقاس على مقياس رقمي تكون فيه 100 نقطة الحد الفاصل بين التوسع والانكماش؛ وبالتالي فإن أي رقم يتجاوز هذا الحد يُعدّ دليلاً على تحسن الأداء العام. 

اللافت أن مؤشر حجم الخدمات اللوجستية في المناطق الريفية سجل 129.6 نقطة، محققًا رقمًا قياسيًا جديدًا، وهذا ما يُبرز مدى عمق هذا التحول الرقمي في القرى والمناطق النائية، حيث لم يعد الريف مجرد مستقبل للخدمات؛ بل طرفًا فاعلًا في سلسلة التجارة الإلكترونية. 

ويؤكد نائب رئيس الاتحاد خه هوي أن شركات الخدمات اللوجستية عززت كفاءتها على نحوٍ كبير، وهذا ما أدى إلى تحسن سرعة التوصيل، ورفع مستوى رضا المستهلكين، وبالتالي دعم استهلاك الأسر دعماً مباشراً. وقد ارتفع أيضًا مؤشر توقيت الخدمات اللوجستية إلى 101.2 نقطة، متجاوزًا حاجز الـ100 لأول مرة هذا العام، في إشارة واضحة إلى تحسن الالتزام بمواعيد التسليم، وسرعة تنفيذ الطلبات، وهي من أهم عناصر الثقة في الاقتصاد الرقمي.

بين الأرياف والمدن

هذا النمو اللافت لم يأتِ بمحض المصادفة؛ بل نتيجة استراتيجية متكاملة تبنّتها الدولة الصينية منذ أكثر من عقد، هدفت إلى سد الفجوة بين الريف والحضر، وتحويل كل بيت وكل منتج وكل حرفة إلى فرصة تجارية إلكترونية مدعومة ببنية لوجستية فعالة. إذ لم تعد التجارة الإلكترونية حكرًا على المدن الكبرى؛ بل أصبحت جزءًا من دورة الإنتاج اليومية في القرى، مدفوعةً بسياسات حكومية واستثمارات ضخمة في البنية التحتية الرقمية، وتطوير شبكات التوصيل إلى جانب إطلاق منصات خاصة بالمنتجات الزراعية والحرفية. 

من هنا يمكن للبنان الاستفادة من هذا النموذج في ظل تشابه بعض التحديات، لا سيما في ما يتعلق بغياب التوازن التنموي بين المركز والأطراف. إن تحفيز الريف اللبناني على الدخول في منظومة التجارة الإلكترونية عبر بناء شبكات لوجستية محلية، وتطوير أدوات الدفع الرقمي، وتوفير التدريب المهني والتقني، يمكن أن يحول تلك المناطق من عبء اقتصادي إلى رافعة إنتاجية تشارك بفعالية في الاقتصاد الوطني، تمامًا كما فعلت الصين مع قراها.

غالبًا ما يُنظر إلى الريف اللبناني على أنه عبء اقتصادي، في حين أنَّ الواقع يُظهر أنه كنز غير مُستخرج. فالمناطق الريفية تزخر بمنتجات زراعية وصناعات حرفية ومأكولات تقليدية ومواهب شبابية يمكن تحويلها إلى علامات تجارية صغيرة تُسوّق رقمياً. في الصين كان الريف هو المستفيد الأكبر من التجارة الإلكترونية، وبوجهٍ خاص بواسطة منصات خصصت أقسامًا للمنتجات الريفية، وذلك في ظل دعم حكومي واضح تمثلَ بإنشاء “قرى التجارة الإلكترونية”، وتدريب آلاف القرويين على المهارات الرقمية، وربطهم بشبكات لوجستية فاعلة.

البنية التحتية الرقمية

هذا النموذج يمكن أن يُطبق في لبنان بمرونة عبر تحفيز الشباب على إنشاء متاجر إلكترونية خاصة بهم، وتعزيز التعاون مع شركات لوجستية محلية أو إقليمية لتوفير خدمات توصيل سريعة ومنخفضة التكلفة. كما يمكن للبلديات أن تضطلع بدور فاعل عبر توفير نقاط اتصال رقمية، أو مراكز مساندة للتجارة الإلكترونية، إلى جانب دعم تطوير منصات لبنانية محلية تتولى جمع منتجات القرى وترويجها وربطها بالسوق الوطني والعربي وحتى الاغترابي.

لكن التجارة الإلكترونية لا يمكن أن تزدهر من دون إصلاح عميق في البنية التحتية الرقمية واللوجستية. ويشمل ذلك تحديث خدمات البريد والشحن وتوفير إنترنت سريع ومستقر بأسعار معقولة، لا سيما في المناطق النائية. إلى جانب تطوير أنظمة الدفع الإلكتروني وتحقيق الأمان السيبراني وسن تشريعات متطورة تحمي حقوق المستهلكين والبائعين، وتُشجع على الابتكار والمنافسة العادلة.

التحول الرقمي لا يكون عبر الحكومة فقط؛ بل يحتاج إلى شراكة ثلاثية الأبعاد تجمع بين القطاع العام والقطاع الخاص والمؤسسات الأكاديمية والمجتمع المدني. في هذا الإطار يمكن للجامعات أن تُدخل مناهج حديثة في التجارة الإلكترونية وإدارة المشاريع الريفية الرقمية، في حين تقوم البلديات بتوفير الدعم اللوجستي والمكاني، وتعمل الجمعيات على التدريب ونشر الثقافة الرقمية.

معالجة البطالة

لا شك أن للتجارة الإلكترونية دورًا فاعلًا في معالجة أزمة البطالة، خصوصًا بين الشباب. ففي ظل التقلص المستمر في الوظائف التقليدية، يمكن لهذا النمط الاقتصادي أن يفتح آفاقًا واسعة للعمل من المنزل أو من القرية من دون الحاجة إلى رأسمال كبير. وقد أثبتت التجارب الدولية أن التجارة الإلكترونية تُساهم على نحوٍ مباشر في خفض كلفة التشغيل، وخلق فرص جديدة في مجالات متنوعة مثل التسويق، التصميم، البرمجة وإدارة المحتوى.

لهذا كله، لا بد من بلورة استراتيجية وطنية للتجارة الإلكترونية، تكون جزءًا من خطة التحول الرقمي الشاملة في لبنان، وتُعنى بتطوير البيئة الحاضنة للتجارة الإلكترونية، وبربطها بأهداف التنمية المستدامة، وتشجيع التصدير الرقمي إلى الخارج، خصوصًا نحو الأسواق العربية والاغتراب اللبناني المنتشر حول العالم.

التجارة الإلكترونية ليست ترفًا تكنولوجيًا؛ بل هي أداة إنقاذ اقتصادي حقيقية يمكن أن تنقل لبنان من حالة الركود إلى دينامية اقتصادية جديدة، تنطلق من الريف إلى الوطن، ومن السوق المحلي إلى الإقليمي والدولي. والتجربة الصينية تقدم درسًا بالغ الأهمية: حين تتوفر الإرادة السياسية، والاستثمار في البنية التحتية، والدعم للعنصر البشري، يتحول الريف من عبء اقتصادي إلى رافعة تنموية، ويصبح الشاب في قرية نائية مساهمًا في بناء اقتصاد رقمي وطني حديث.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى