الصينرأيعلى طريق الحرير

كل الطرق تؤدي إلى الصين

وارف قميحة

رئيس معهد طريق الحرير للدراسات والأبحاث – كونفوشيوس

يقول ونستون تشرشل “اُدرس التاريخ، اُدرس التاريخ، فهنالك تكمن أسرار الحكم”. فالتاريخ يقول إنه منذ عام 2000 قبل الميلاد، تم تصدير التوابل من سريلانكا، #الصين والهند، على طول طرق الحرير عبر شبكة كبيرة وواسعة النطاق ومثيرة للإعجاب من الطرق البحرية التي تربط بين الشرق والغرب، والممتدة من الساحل الغربي لليابان، عبر جزر إندونيسيا، حول شبه القارة الهندية حتى الهضبة الإيرانية. شبه الجزيرة العربية وأوروبا في نهاية المطاف هي جزء بحريّ واحد من تلك الشبكات البحرية واسعة النطاق لطرق الحرير. ومشروع للممرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، الذي أعلن عنه في قمة العشرين، والذي يشبه طريق التوابل القديم، ليس بجديد!

رئيس الوزراء الهندي في كلمته الافتتاحية في القمة الـ18 لرؤساء دول وحكومات مجموعة العشرين، والتي عقدت في نيودلهي ما بين 9 و11 أيلول الحالي، قال إن العالم يعاني من “أزمة ثقة”، داعياً إلى الانضمام إلى المجموعة. وحسبما ورد في إعلان قادة المجموعة، فإن بناء علاقات تعاونية اقتصادية هو قيمة أساسية. لكن غياب الرئيس الصيني شي جين بينغ عن القمة شكّل تحدياً كبيراً لشعار “أرض واحدة، عائلة واحدة، ومستقبل واحد”، وأدّى إلى طرح العديد من التساؤلات؛ فهذه هي المرة الأولى التي يغيب فيها “شي” عن قمة مجموعة العشرين منذ توليه السلطة في أواخر عام 2012، فكيف يتم رفع هذا الشعار في ظلّ غياب الرئيس الصيني؟

بالرغم من ذلك، أشادت الصين بالإعلان المشترك لزعماء مجموعة العشرين، في دلهي، قائلة إنه أرسل “إشارة إيجابية” إلى العالم. واعتبرت أن البيان يعكس وجهات نظرها، ويُظهر أن مجموعة العشرين تعمل معاً لمواجهة التحديات العالمية وتعزيز التنمية. وهذا الأمر ليس بجديد أيضاً بل نرى أنه يصبّ في مصلحة وتوجهات الصين التي أطلقت مبادرة التنمية العالمية التي تهدف إلى لفت انتباه المجتمع الدولي إلى قضايا التنمية، وتقوية الشراكات الإنمائية العالمية، وتعزيز التعاون الإنمائي الدولي، وتسريع تنفيذ أجندة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة لعام 2030.

ما دعت إليه القمة يصبّ في صميم ثوابت السياسة الدولية التي تنتهجها الصين سواء بدعوة “جميع الدول إلى التمسك بمبادئ القانون الدولي، بما في ذلك سلامة الأراضي والسيادة، والقانون الإنساني الدولي، والنظام متعدد الأطراف الذي يحمي السلام والاستقرار”، أو بحثّ “الدول على تجنب استخدام القوة للاستيلاء على الأراضي واحتلالها”، بالرغم من أن نتائج القمة الاقتصادية تبقى الأكثر أهمية، خصوصاً لإسرائيل؛ وهذا ما عبّر عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي يواجه احتجاجات داخلية وركوداً اقتصاديّاً، بقوله إن “إسرائيل في محور مشروع دوليّ غير مسبوق سيربط البنية التحتية من آسيا إلى أوروبا. كما سيحقق هذا الارتباط رؤية متعددة، وخلال سنوات ستغير وجه الشرق الأوسط وإسرائيل وستؤثر على العالم أجمع”.

والاستثمار السياسي كان جلياً في كلمة الرئيس الأميركي جو بايدن، التي ألقاها خلال الإعلان عن مشروع “الممر الاقتصادي”، عندما قال إنّه “خطوة هائلة إلى الأمام، وسيغيّر قواعد اللعبة” من الهند إلى أوروبا مروراً بالشرق الأوسط. هذه العبارة تدل على ما يبدو على قرار من واشنطن بتدارك فجوة كبيرة في علاقاتها مع دول آسيا وأفريقيا حيث شعرت أن “البساط يُسحب من تحت قدميها”. وبالتزامن، تحدث بايدن عن استثمارات في شبكات لسكك حديدية في أفريقيا تربط ما بين أنغولا وزامبيا وصولاً إلى المحيط الهندي.

إن توقيع الهند والولايات المتحدة والسعودية والإمارات وفرنسا وألمانيا وإيطاليا مذكرة تفاهم لإنشاء الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا (IMEC) ، المستهدف منه زيادة التجارة وتوفير موارد الطاقة وتحسين الاتصال الرقمي من دون تقديم التزام مالي ملزم، إضافة إلى أن كل شيء تقريباً يتعلق بالممر المقترح لا يزال غير واضح ومبهم، يفسّر قول نتنياهو “أود أن أشكر الرئيس الأميركي بايدن وإدارته على الجهد الكبير الذي قادنا إلى الإعلان التاريخي اليوم. قبل عدة أشهر، اتصلت الولايات المتحدة بنا بشأن اغتنام هذه الفرصة التاريخية”. وأضاف: “منذ ذلك الحين، جرت اتصالات دبلوماسية عاجلة من أجل تحقيق الاختراق الذي تحقق اليوم”. من هذه العجلة تتضح رغبة الإدارة الإميركية بالرد على اتفاقيات الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين الصين والسعودية ونتائج قمم الرياض 2022، إضافة إلى مقررات ونتائج قمة مجموعة بريكس، التي عقدت في جوهانسبرغ، وأتت بالموافقة على توسعة غير مسبوقة، حيث قررت رسمياً دعوة كلّ من الأرجنتين ومصر وإثيوبيا وإيران والسعودية والإمارات للانضمام إلى المجموعة الطامحة لتصبح قوة اقتصادية عالمية، والتأكيد على السعي لنظام عالمي متعدّد والتخلّص من هيمنة الدولار.

المشروع الجديد من مومباي في الهند بحراً إلى ميناء دبي في الإمارات، ومن هناك إلى منطقة الغويفات الإماراتية بالسكك الحديدية، امتداداً إلى السعودية، ليصل إلى جنوب الأردن، ثمّ يصل إلى ميناء حيفا الإسرائيلي، الذي تم شراؤه أخيرًا مقابل 1.2 مليار دولار من قبل كونسورتيوم تقوده مجموعة أداني الهندية. وعلى بعد بضعة كيلومترات فقط على الجانب الآخر من الخليج تقع محطة ميناء حيفا المنشأة المملوكة لمجموعة شانغهاي الدولية للموانئ، والمملوكة بدورها للدولة في الصين؛ بالتالي للصين فيه موطىء قدم، ومنها إلى ميناء بيرايوس اليوناني بحراً الذي تسيطر عليه شركة الشحن الصينية العملاقة كوسكو، وللصين أيضًا فيها نصيب، ومنه إلى أوروبا براً.

إذا كانت رغبة الولايات المتحدة في تطويق الصين وعزلها عن أوروبا من خلال هذا المشروع، فإجمالي حجم التجارة بين الاتحاد الأوروبي والصين ارتفع بنسبة 23 في المئة تقريباً في 2022 مقارنة بالعام 2021، ليصل إلى 856.3 مليار يورو (912.6 مليار دولار) بحسب يوروستات. وتعدّ الصين ثاني أكبر شريك تجاري لإسرائيل صاحبة الورقة الرابحة في هذا المشروع، أقلّه على مستوى الاختراق السياسي، إذ بلغ في عام 2022 حجم التبادل التجاري بين الجانبين نحو 24.45 مليار دولار، بزيادة قدرها 11.6 في المئة عن العام السابق.

إن هذا المشروع الجديد أرادت منه الولايات المتحدة أن تكون أيضاً في مواجهة الصين من الخاصرة الشرق أوسطية. فالصين تعدّ الشريك التجاري الأكبر للدول العربية، ولغة الأرقام تثبت أنّه في عام 2022 وصل حجم التبادل التجاري بين الصين والدول العربية إلى أربعة أضعاف ما كان عليه قبل 15 عاماً، إذ بلغ 507.15 مليارات دولار، بحسب البيانات المنشورة على “موقع منتدى التعاون الصيني – العربي”. وبلغ حجم الواردات الصينية من وإلى دول الشرق الأوسط 228.9 مليار دولار، بزيادة 16.4 في المئة. أمّا الصادرات الصينية فبلغت 278.2 مليار دولار، أي 37.6 في المئة على أساس سنويّ. وحدها المملكة العربية السعودية تمثل ما نسبته 25 في المئة من إجمالي التبادل التجاري بين الصين والدول العربية. وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين المملكة والصين 106.1 مليارات دولار في عام 2022، بمعدل زيادة بلغ 30 يف المئة مقارنة بالعام 2021.
أغلبية دول قمة العشرين، الذين أطلقوا مشروع إنشاء الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، تربطهم علاقات تجارية متينة مع ثاني أكبر اقتصاد في العالم وشركاء الصين في تكتلات سياسية واقتصادية وأمنية، إضافة إلى انضمامهم إلى مبادرة الحزام والطريق. فمهما تعددت الطرق والممرات والمسارات فجميعها يؤدي إلى الصين.

في الختام، اعتقد سكان منطقة ganta camp في نيودلهي أن قمة G20 التي ستعقد على بعد 500 متر فقط من منازلهم ستحسّن من ظروف عيشهم، إلا أنّهم باتوا بلا مأوى. والسخرية ما صرّح به أحد المواطنين في نيودلهي، غييندار كومار، لوكالة الأناضول، وهو بائع متجول، إذ قال: “المسؤولون أجبروني على إغلاق “الكشك” حتى انتهاء القمة التي لا تفيدني بشيء”.

المصدر:النهار

الوسوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى